اخبار

«السوريين_منورين_مصر»

من اللحظة الأولى لدخول الزبون إلى بوابة الوكالة، يهرع إليه أحد الشبان العاملين بها بابتسامة وترحاب، ولكنة شامية أصبحت ذات شعبية فى السنوات الأخيرة لدى المصريين، فيما يُحاول البائع سريعًا قراءة ذوق الزبون وطلبه، وتوفير الطلب أو مده بالمزيد من المقترحات، فى مهارة تُعد واحداً من عوامل تميُز الاستثمارات السورية فى مصر. فأصبح قطاع الصناعات النسجية من أبرز القطاعات التى أحدث فيها الاستثمار السورى طفرة ونشاطًا ملحوظين.مصانع المنسوجات السورية في السوق المصري

 

على خلفية تصاعُد أحداث الحرب فى سوريا، ارتحل حسان إلى مصر عام 2013، وقرر سريعًا أن يُعيد تدشين تجارته المتضررة من الحرب. فى البداية، اتسمت تحركات حسان بكثير من الحيطة والحذر والمراقبة: «فى هذا العام بدأنا نحضر معارض، ونتعرف على الناس والناس تتعرف علينا ونبنى ثقة مع العميل»، ليس فقط لأغراض قراءة محددات سوق النسيج المصرية، وإنما كفرصة للتشبيك مع المستثمرين المصريين فى القطاع. ولاحقًا، بخطوات أكثر ثباتًا مبنية على فهم مُتنام للسوق المصرية، بدأت تجارته تستقر مع وجود سوق كبيرة من المستهلكين «واحد من عناصر القوة الكم البشرى فى جمهورية مصر العربية».

 

استوعب حسان خللاً فى ميزان المصنعين والمستوردين «المصنعين قليلين، بينما المستوردين كُتار جدًا»، وعلى ذلك، وجد أيَضًا أن النذر القليل من التصنيع يتسم بضعف الجودة فى عدد من النواحى: خامة القماش، والتصنيع، والتشطيب، على حد تعبيره. بحسب حسان، اتسم غزو التجار السوريين للسوق المصرية فى قطاع النسيج على وجه التحديد بمُحاولات حثيثة لكسب ثقة العميل المصرى، كان فى مقدمتها رفع سقف توقعاته بخصوص مسألة الجودة «دورنا الثقة بتيجى ازاى، بطريقة محدش يختلف عليها. وكان أول حاجة المصداقية بين العميل والمُورِّد، إنه يكون اللى بيشوفه العميل بيستلمه»، علاوة على ذلك، يعتبر حسان أن الحرص على تقديم المنتج بسعر مدروس جيدًا، ومناسب لتطلعات العميل، أسهما بشكل كبير فى حظوة التاجر السورى لدى المُستهلك المصرى، بالإضافة إلى دوام جودة الأنسجة التى يبيعها التاجر السورى «أن يكون المنتج اللى بتستلمه النهارده، مش بيتغير بعد كام يوم»، كلها أسباب اكتسب بها المنتج السورى ثقة الزبون المصرى.

 

على مدار السنوات التى عاشها حسان فى القاهرة وتاجر فيها، بات يعتقد أن توغل تُجار سوريا فى قطاع النسيج المصرى مشهد من تبادُل المنافع. فمن ناحية، استطاع التاجر السورى الدفع نحو مزيد من التوازن فى توفير احتياجات السوق المصرية الكبيرة من خلال التصنيع فى الداخل عوضًا عن الاستيراد، كما أفاد سوق النسيج عن طريق إبراز ما يسميه حسان «عنصر المنافسة»، وهو ما انعكس على المستهلك المصرى الذى بات يجد احتياجاته بجودة أكبر وبسعر أكثر عدالة «أى حاجة فى الدنيا مفيش ليها منافس، طبيعى المسيطر هو اللى بيتحكم فى سعرها». ومن ناحية أخرى، أكسب التواجُد السورى السوق المصرية ميزة التنوع، يضرب حسان مثالاً قائلا «لو عندنا مليون قطعة، زمان كان ممكن يكونوا موديل واحد، دلوقتى نفس الحجم ممكن يتعمل منه 10 موديلات على الأقل». بدوره، يعتبر حسان أن تحرير سعر صرف الجنيه المصرى، أو مايعرف اصطلاحًا بتعويم الجنيه، يعتبر حدثًا فاصلاُ فى تجارته ومعوقًا يحول دون المزيد من المبيعات «الوضع الاقتصادى للمستهلك نفسه أثر بالتأكيد على قوته الشرائية، لأن دخول الأفراد ظلت ثابتة».

 

أحد السوريين العاملين فى الأزهر يقول إن لديهم مثلاً سورياً يقول: «مطرح ما ترزق إلزق» فى إشارة إلى التمسك بالأرض التى يرزق فيها بالأموال وهو ما جعل مُحمد الحلوانى، تاجر نسيج سورى مقيم بالقاهرة، لا يحب التمييز بين الجنسيات المختلفة العاملة بمجاله المزدهر على الأراضى المصرية، موضحًا أن التمييز صار يُشكل حساسية بين بعض الفئات بدون داعٍ فيقول «أنا مثلًا واحد مش هرجع سوريا، فأنا معتبر حالى مصرى، لكن فى حساسية عند البعض، لكن الحقيقة ماحدش بياخد رزق حد الرزق مقسوم من رب العالمين، ورزقى ورزقك على الله». جاء الحلوانى إلى مصر فى عام 2015، وبدأ تأسيس عمله وتجارته مستفيدًا من تجربة من سبقه من السوريين الوافدين إلى البلاد، فاستفاد من خبراتهم فى فهم مفردات السوق المصرية، ما ساعده على الاندماج سريعًا.

 

من وجهة نظره، لم يمر كافة التجار والصُناع السوريين بالتجربة ذاتها، إذ إن بعضهم قضى عامين أو يزيد دون تحقيق نجاح يذكر فى السوق المصرية، نتيجة عدم رغبتهم الحقة فى العمل، وتمسكهم بانتظار تحسن الأوضاع الميدانية فى سوريا أملا فى العودة إلى متاجرهم ومصانعهم القديمة، الأمر الذى يبدو بعيد المنال. يقول الحلوانى «بعد 2013 الأمور اتغيرت، والناس بدأت تدخل على السوق المصرى وتشوف وضعه وطبيعة الزبون، وتحدد هتشتغل سوق داخلى ولا تصدير. وعمومًا السوق المحلى هنا شريحة 100 مليون ودا كافى وزيادة لأى حد عاوز يشتغل».

 

يربط «الحلواني» بشكل كبير ما بين تطور الأذواق والمعروضات من المنسوجات فى الأسواق العربية وازدهار الصناعة بشكل عام، وبين التطورات الإعلامية وانتشار وسائل التواصل الاجتماعى، ما أدى إلى أن أصبح المُستهلك على دراية فورية بتطورات وتحديثات خطوط الموضة، وبالتالى أكثر تقبلًا لما يمكن أن يعرضه التجار من منتجات حديثة التصميم أو مبتكرة من حيث الألوان والخامات المُستخدمة «العالم كله اتفتح على الميديا وبقى يبص على الحاجة الجديدة فى الملابس والأقمشة والمفروشات. الزبون بقى عنده اطلاع». رغم ذلك، لا يؤمن التاجر الأربعينى بالزعم القائل إن دخول الاستثمار السورى إلى مجال صناعة النسيج المصرية ساهم فى تطور الأذوق وزيادة تنوعها.

 

يرى التاجر أن ما أحدثه اندماج بعض التجار والمصنعين السوريين فى دورة عمل الغزل والنسيج المصرية هو أقرب للتكامل منه للتطوير، نتيجة تقارب وجهات النظر والخلفيات بين الطرفين، لافتًا إلى أن الأمر ذاته لم يحدث فى تركيا- فى رأيه- بسبب «الفجوة الكبيرة ما بين الصناع السوريين ونظرائهم من الأتراك المتمتعين بوسائل إنتاج متطورة وحديثة»، أما فى مصر، حسبما يصف، فهناك تقارب فكرى «إحنا هنا كملنا بعض، ماحدش سبق التانى، السوق المصرى كان فيه حاجات ناقصة كملناها، وإحنا كان ناقصنا حاجات كملوهالنا، زى إمكانية الإنتاجية الضخمة، ودى مكناش متعودين عليها فى سوريا، هنا الإنتاج ضرب 10 (عشر أضعاف) والاستهلاك ضرب 20».

 

أما عن المعوقات التى قد تواجه أى مستثمر يدلف إلى مجال العمل بصناعات الغزل والنسيج فى مصر، فيلخصها الحلوانى فى ندرة وجود «العمالة المخلصة» حسبما يصفها، وهى العمالة المستقرة التى لا تنتوى ترك العمل بشكل مفاجئ يعطل دورة الإنتاج، أو عدم إعطاء العمل الاهتمام الكامل ما يؤثر على جودة المنتج. ورغم ذلك، يرى أنه فى الأعوام الماضية قامت هيئة الاستثمار والجهات المنوط بها تيسير العديد من الخطوات اللازمة لإنشاء عمل تجارى حديث، وكذلك إنشاء المصانع فى المدن الجديدة، ما يعتبره خطوات ضمن خطة تحول مصرية للدولة الصناعية رقم 1 بالمنطقة.

 

من وجهة النظر المصرية، يستطيع المدقق أن يرى وجهًا آخر للتواجُد السورى فى سوق النسيج، ليس بالضرورة ورديًا تمامًا، وإنما متأثر بالتأكيد بحسابات الخسارة والمكسب والمنافسة. بحسب مينا ملاك، شاب ثلاثينى، يعمل مديرًا للمبيعات فى إحدى مؤسسات النسيج المصرية الراسخة، تُعد الروابط المتينة بين التجار السوريين أحد عناصر قوة استثماراتهم فى قطاع النسيج، وساعدتهم على غزو السوق وترك بصمة فيها فى وقت قصير «التجار بيفتحوا حسابات لبعضهم، وبيشغلوا بعض بنظام الآجل اللى مش بالضرورة أنا أسمح بيه مع تاجر سورى، ممكن فى أى لحظة يرجع بلده»، فيما لا يُنكر أن صناعة النسيج فى سوريا كانت تحظى بسُمعة مميزة قُبيل الحرب، متربعة على قمة المنطقة العربية «السوريين مش جايين من سوريا جاهلين أو مش عارفين بيعملوا إيه، هم كانوا يعتبروا رقم واحد فى المنطقة فى الغزل والنسيج، وجم ومعاهم تفاصيل الشغلانة».

 

من مشاهدات مينا على مدار خمسة أعوام هى عمر التواجد السورى فى سوق النسيج المصرية، يعتقد أن واحدًا من الفروق الجوهرية بين التاجر المصرى والتاجر السورى تتمثل فى مسألة تأثر دورة رأس المال لكل منهما بأسعار الدولار والهبوط والصعود فيه «لو الدولار سعره هبط، التاجر المصرى مش هيخفض السعر، وهيقول الدولار ما سمَّعش فى السوق، لكن التاجر السورى بيخفض السعر مباشرة»، فيما عدا ذلك يعتبر أن التجار السوريين لم يأتوا بطفرة فى قطاع النسيج، حيث يشترك التاجر المصرى والتاجر السورى فى استيراد الغزول والأصباغ من الخارج نظرًا لتراجع جودة الغزل المصرى فى الفترة الأخيرة، بالإضافة إلى اعتماد الاثنين أيضًا على استقدام الموديلات والموضة من رواد النسيج فى العالم: تركيا، وإيطاليا. ويعتبر مينا أن رحلة الاستثمار السورى فى النسيج فى مصر اتسمت بالكثير من الحرص طوال الفترة الماضية واللعب على المضمون لاسترداد أموالهم سريعًا «فى بعض الفترات اشتغلوا على فكرة الخامات الرخيصة عشان يحرقوا شغل».مصانع المنسوجات السورية في السوق المصري

 

ويرى مينا أن الحكومة المصرية تحاول قدر الإمكان محاصرة الاستثمارات السورية غير المُرخصة، وحماية المُنافسة عن طريق حملات التفتيش المتكررة، والتى لم تكُن فى وجهة نظره مُجدية بشكل كامل «كان فى حملات كتير، بس كان التاجر غير المرخص، بيقفل ساعة ويفتح تانى، زى حملات البلدية على الباعة الجائلين»، من ناحية أخرى، يعتقد أن النمط الرقابى الأكثر قدرة على ضبط السوق يتمثل فى مُراقبة الجودة «الحكومة ما ينفعش مثلا تسمح بتداول نسيج 100% بوليستر، كدة بتلبّس المستهلك بلاستيك حرفيًا»، فيما يؤكد أن خيارات مؤسسته بقدوم السوريين إلى السوق أصبح محدودًا فى التعامل مع الأسماء الكبيرة وتوفير النسيج لها، فيما سيطرت الاستثمارات السورية إلى حد كبير على صغار الموردين بأنسجة أقرب للشعبية، وأكثر اتساقًا مع جيوب المستهلكين.

 

وفقًا لـ «مينا» أصبحت شركته تستهدف عددا من العملاء المحددين ذوى السمعة الناصعة والمعتمدة على منتجات من خامات القطن الخالص فقط، كإحدى شركات الملابس الداخلية الشهيرة، ما جعل حقل عملائه يتقلص باستمرار على مدار السنوات، فيما تخضع شركات أخرى مجاورة له لمقتضيات السوق الجديدة، وباتت تقدم خامات مختلفة من بينها البوليستر الرخيص لمجاراة الأوضاع، ويختتم حديثه قائلًا «صحيح السوريين فى سوريا كانوا قربوا يغزوا العالم بالغزل والنسيج، لكن لو سألتِ أى سورى هيقولك إحنا محسناش بالمكسب والانتشار إلا فى مصر».

 

من جهة أخرى، يقيِّم محمد المرشدى، رئيس غرفة الصناعات النسجية فى اتحاد الصناعات المصرى، تجربة الاستثمارات السورية فى قطاع النسيج المصرى بعد خمسة أعوام من ولادتها. ويصر على رأيه الذاهب لكون التجربة «محمودة بالتأكيد، ومرحب بها»، شأنها شأن أى استثمار أجنبى تسعى الدولة لاجتذابه. إلا أنه يستطيع أن يُفرق بين نمطين من الاستثمار السورى فى قطاع الصناعات النسجية: أحدهما شرعى، والآخر غير شرعى، وهو الأشد خطورة على المُصنّعين والمستثمرين المصريين.